غزة- شرارة انهيار النظام العالمي، وبداية نظام جديد؟

المؤلف: كمال أوزتورك10.13.2025
غزة- شرارة انهيار النظام العالمي، وبداية نظام جديد؟

في غضون حقبة الثلاثينيات المتقدّمة من القرن الفائت، كان العالم بأسره يئن تحت وطأة أنظمة قمعية يقودها طغاة متصلبون، متشبعون بالنزعات الدكتاتورية المتطرفة. كانت الدول آنذاك رازحة تحت نير حكم الزعماء المتفردين وأحزابهم الأحادية. لقدشهدت تلك الفترة بالذات انزلاقًا مروعًا للقومية نحو العنصرية البغيضة، وتمجيدًا أعمى للدول القومية، وبلغت تلك الأنظمة ذروة سياساتها العدوانية الشرسة.

وبرزت شخصيات مشؤومة مثل هتلر في ألمانيا النازية، وموسوليني في إيطاليا الفاشية، وفرانكو في إسبانيا القومية، وستالين في روسيا الشيوعية، كرموز صارخة لتلك الحقبة المظلمة. وانتشرت أنظمة مشابهة في شتى بقاع المعمورة، بل إن تأثير هؤلاء الطغاة بلغ من الشؤم حدًا جعل شارب هتلر يغدو موضة رائجة في العديد من البلدان تعكس حالة الانحدار الأخلاقي والفكري

نُظُمُ العالم الجديدة تتأسس عقب الكوارث المروعة

لكن سرعان ما استوعب الناس حجم الكارثة التي جلبتها هذه الأنظمة المريضة للعالم. فالحروب الشعواء التي أوقدتها تلك الأنظمة الدكتاتورية تفشّت في أرجاء المعمورة، وحصدت أرواح ما يقارب 70 مليون إنسان. عندها فقط أفاقت الإنسانية من غفلتها، وأدركت بوضوح أن أنظمة الحكم الفردية المطلقة، والمجتمعات القائمة على ثقافة وعرق واحد، والأنظمة القمعية المتجبرة، تشكل خطرًا داهمًا على العالم أجمع، وأنه لا بد من التصدّي لها بكل حزم وعزم.

وشهدت مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون والتعددية الثقافية وقيم العيش المشترك تطورًا سريعًا وملحوظًا عقب الحرب العالمية الثانية المدمرة. وبدأ العالم بصياغة نظام جديد أكثر عدالة وإنصافًا. وعلى أقل تقدير، لم يعد النازيون الجدد في الغرب قادرين على تصدير أفكارهم المسمومة إلى العالم، بل تصاعدت التطلعات والمطالبات بالحرية والعدالة في كل مكان.

لكن من المؤسف حقًا أن البشرية لا تستطيع إحداث تغييرات جوهرية إلا بعد أن تقع الكوارث المروعة. ومن الغريب أن الإنسان لا يحقق أي تقدم حقيقي إلا بعد الزلازل الاجتماعية العنيفة التي تجلب له الألم والدمار.

النظام العالمي المتداعي في غزة

أعتقد جازمًا أننا قد ولجنا إلى حقبة مشابهة تمامًا.

فغزة، بالنسبة لي، هي الشرارة التي تنبئ بأن العالم على أعتاب تحولات هائلة، وأن النظم الحالية آيلة إلى الانهيار والتداعي.

فكما كان هناك فاشيون متطرفون في إيطاليا وإسبانيا والنمسا يهللون لهتلر، نشهد اليوم أعضاء في الكونغرس الأميركي يصفقون بحرارة لنتنياهو الذي يرتكب جرائم إبادة جماعية بشعة. وقد تجلى لنا مرة أخرى أن الديمقراطية الأميركية ما هي إلا قناع زائف ومخادع، عندما رست حاملة الطائرات العملاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط لحماية الجنود الإسرائيليين وهم يقتلون الأطفال الأبرياء على شواطئ غزة.

كما أن الفرضية التي طالما تغنى بها الغرب بأن بريطانيا هي مهد الديمقراطية والحرية قد دُفنت إلى الأبد في صحارى الحُديدة القاحلة، عندما قصفت إسرائيل المدنيين العزل في غزة، ولم تحرك بريطانيا ساكنًا إلا عندما قصفت جماعة الحوثيين في اليمن.

أما الأمم المتحدة، التي تأسست عقب الحرب العالمية الثانية بهدف منع عودة الدكتاتوريين أمثال هتلر الذين أشعلوا نيران الحروب، فقد أعلنت إفلاسها الفعلي عندما عجزت عن فعل أي شيء تجاه نتنياهو الذي يحرق فلسطين والشرق الأوسط بأكمله.

لقد شاهدنا بأم أعيننا كيف أن كل القيم والأفكار والشعارات الزاهية التي أنتجتها أوروبا بعد الحرب، كانت في الواقع مجرد شعارات للاستهلاك الداخلي، وأنهم يعيشون في عزلة عن العالم، محكومين بالأنانية المفرطة، عندما تعرض المتظاهرون الذين نادوا بوقف المجازر الوحشية في غزة للضرب المبرح على أيدي الشرطة في عواصمهم.

وعندما دمرت الجرافات الإسرائيلية المستشفيات والمساجد والكنائس والمدارس، تبين بما لا يدع مجالًا للشك أن محاكم حقوق الإنسان والمحاكم الدولية وإعلانات حقوق الإنسان التي أسسها الغرب ليست سوى مسرحية هزلية زائفة. لقد انهارت هذه المؤسسات المزعومة بدورها.

لقد كشفت غزة لنا جميعًا مدى عبثية المؤسسات التي أقمناها بآمال عريضة، إذ تحولت إلى هياكل جوفاء لا معنى لها. فقد اندثرت مؤسسات مثل منظمة التعاون الإسلامي، وجامعة الدول العربية، والاتحاد الأفريقي، في مياه البحر الأبيض المتوسط، تمامًا كما اندثرت طائرة الطفل التي تحطمت على شاطئ غزة.

لقد سمعنا جميعًا صوت الطفل الذي فقد والدته وهو يكشف لنا كيف أن مفاهيم مثل "الأخوة الإسلامية" و"الوحدة الإسلامية" و"الأمة" قد أُفرغت من محتواها، وأصبحت مجرد شعارات جوفاء لا معنى لها، بسبب الأنظمة الرسمية العاجزة والمتقاعسة.

سيتم تأسيس نظام عالمي جديد حتمًا

إن جميع النماذج والخطابات المزخرفة في العالم تتهاوى وتتداعى الواحدة تلو الأخرى، تمامًا مثل بيوت الطين المتصدعة في خان يونس. والعقول تسجل وتخزن كل ما يحدث بدقة متناهية. العالم على وشك أن يمر باضطراب شديد وتمزق وفوضى عارمة. والجميع يشاهد فقط نتنياهو وهو يسحب العالم نحو الهاوية دون أدنى تردد، تمامًا كما فعل هتلر من قبل. وإذا لم يتم اتخاذ التدابير اللازمة وبأسرع وقت ممكن، فلن يكون بالإمكان تجنّب الكارثة التي سيتسبب فيها. ومع ذلك، فلن يتمكن أحد من منع إنشاء نظام عالمي جديد أكثر عدلًا وإنصافًا.

لا أعرف تحديدًا كيف سيحدث ذلك، ومن سيقوم به، أو كيف سيكون شكل النظام الجديد.

لكنني واثق كل الثقة من أن الأجيال القادمة، التي ستشهد عجزنا وفشلنا وخجلنا، هي التي ستتولى تأسيس هذا النظام الجديد.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة